فاطمة الفهرية: أم الجامعات وصاحبة الأثر الخالد
فاطمة الفهرية: أم الجامعات وصاحبة الأثر الخالد
نشأة مباركة وبداية حلم
وُلدت فاطمة الفهرية في مدينة القيروان بتونس في أوائل القرن التاسع الميلادي، في بيتٍ عرف بالثراء والكرم. كان والدها محمد بن عبد الله الفهري من كبار التجار، ورغم غناه المادي، فإنه حرص أن يزرع في بناته حبّ العلم والدين والصدق. عاشت فاطمة طفولةً مليئة بالقيم، وتشبّعت بروح المسؤولية منذ صغرها.
انتقلت الأسرة إلى مدينة فاس بالمغرب بعد أن استقرت هناك جموع من أهل القيروان، حاملين معهم ثقافتهم وتجارتهم، لتتحول فاس إلى مركز حضاري ناشئ. في هذا الجو، كبرت فاطمة، وتعلّمت أن للإنسان رسالة تتجاوز حدود الذات.
من الثروة إلى الوقف
بعد وفاة والدها وزوجها، ورثت فاطمة ثروة هائلة. كان من الممكن أن تنفقها في الترف والبذخ، لكن قلبها كان ممتلئًا بحب الخير وخدمة الناس. وهنا برزت عبقريتها: حولت الثروة إلى وقف، وجعلتها طريقًا إلى عمل صالح خالد. قررت أن تبني مسجدًا وجامعةً لتجعل من فاس مركز إشعاع للعلم والدين والحضارة.
ولادة القرويين
في عام 859م، بدأت فاطمة مشروعها العظيم: بناء جامع القرويين. اختارت مكانًا يتسع للناس، وأشرفت بنفسها على مراحل البناء. لم تكن مجرد ممولة، بل كانت صاحبة رؤية، تتابع العمّال، وتحرص على الدقة والجمال، حتى خرج المسجد في صورة بديعة.
لكن المسجد لم يكن غاية بحد ذاته، بل وسيلة ليصبح منارة علمية. تحول تدريجيًا إلى مدرسة كبيرة، ثم إلى جامعة تستقبل طلاب العلم من أنحاء المغرب والأندلس وإفريقيا، بل ومن أوروبا أيضًا.
الصوم حتى اكتمال البناء
من المواقف المضيئة التي تخلّد ذكرها أنها نذرت أن تصوم من أول يوم بدأ فيه البناء حتى يكتمل. بقيت على عهدها، صابرة محتسبة، وكأنها أرادت أن تبارك المشروع بالعبادة كما باركته بالمال. هذا الموقف يعكس قوة شخصيتها وإيمانها العميق بأن العلم عبادة لا تقل شأنًا عن الصلاة.
جامعة قبل أن يعرف العالم الجامعات
حين ننظر إلى القرويين، ندرك أن فاطمة سبقت زمانها بقرون. فقد جعلت من مسجدها أول جامعة في العالم تمنح شهادات علمية معتمدة. كانت تدرّس فيه علوم الشريعة والقرآن، ثم توسعت المناهج لتشمل:
-
اللغة والبلاغة.
-
الطب والفلك.
-
الرياضيات والهندسة.
-
الفلسفة والمنطق.
صار القرويين ملتقى العلماء، وخرجت منه أسماء عظيمة أثّرت في الفكر الإنساني كله.
أعلام نهلوا من نورها
لم يكن مشروع فاطمة وقفًا محليًا، بل كان عالميًا. من بين من مرّ على القرويين:
-
ابن خلدون: مؤسس علم الاجتماع.
-
ابن رشد: الفيلسوف والطبيب.
-
الإدريسي: الجغرافي الكبير.
-
وغيرهم من العلماء الذين حملوا نور المعرفة إلى الأندلس وأوروبا.
حتى أوروبا نفسها استفادت من هذا النور، إذ انتقل طلابها إلى فاس لينهلوا من علوم القرويين، فكان لذلك أثر في نهضتها الفكرية فيما بعد.
إنسانة عظيمة قبل أن تكون مؤسسة
لم تكن فاطمة مجرد واقفة مال، بل كانت إنسانة تحمل قلبًا عظيمًا. لم تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها، وكرست حياتها للمشروع الذي رأت فيه رسالتها. كان بإمكانها أن تعيش حياة هادئة، لكنها اختارت أن تبني صرحًا يتجاوز حدود حياتها ليبقى أثرًا خالدًا للأمة.
أثرها المستمر
اليوم، وبعد أكثر من ألف عام، لا يزال جامع وجامعة القرويين قائمين في فاس. كل كتاب يُقرأ هناك، وكل درس يُعطى، هو امتداد لروحها. إنها تقول لنا:
-
أن المال حين يوضع في سبيل الله يتحول إلى نور لا ينطفئ.
-
أن المرأة قادرة على صناعة الحضارة كما يصنعها الرجال.
-
أن الإرادة الصادقة قد تغيّر وجه التاريخ.
إرثها للمرأة المسلمة والعالم
فاطمة الفهرية هي نموذج المرأة المسلمة القائدة، التي لم تقف عند حدود بيتها، بل حملت همّ الأمة. علّمت العالم أن المرأة يمكن أن تكون صانعة للتاريخ لا متفرجة عليه، وأنها تستطيع أن تترك بصمة علمية تخلد اسمها عبر القرون.
الخاتمة
فاطمة الفهرية لم تكن مجرد امرأة غنية أنفقت مالها، بل كانت عقلًا مستنيرًا وقلبًا مؤمنًا وإرادةً صلبة. صنعت صرحًا علميًا لا يزال شامخًا حتى اليوم، وأثبتت أن العظمة ليست حكرًا على الملوك والسلاطين، بل هي ميراث كل من آمن برسالته.
إنها أم الجامعات، وملهمة الأجيال، وواحدة من أعظم النساء اللواتي كتبن أسماءهن في سجل الخلود.